من تواضع النبي ورحمته
من تواضع النبي ورحمته
رُويتْ أحاديث كثيرة في تواضع النبي وحثه على التواضع , فمن ذلك ما أخرجه الحافظ الطبراني من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " أن رسول الله كان يجلس على الأرض, ويأكل على الأرض , ويعتقل الشاة , ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير" ().
فهكذا كان في تواضعه في حياته الاجتماعية ولم يكن كزعماء فارس والروم في زخرفهم ومظاهرهم في الجلوس والأكل , أما حلب الشاة فإنه مظهر من مظاهر التواضع الكبير, لأن الكبراء لا يفعلون ذلك , وكذلك إجابة دعوة المماليك ونحوهم من الفقراء.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "أن النبي كان لا يأكل متكئا ولا يطأ عقبه رجلان"
فهذا الحديث يشتمل على صفتين من صفات التواضع.
الأولى : أنه النبي كان لا يأكل متكئا , وأكل الإنسان وهو متكئ له سلبيات , منها أن الاتكاء من جلسات الراحة , والإنسان وهو يأكل من نعمة الله تعالى ينبغي له أن يتواضع حتى يكون شاكرًا لله جل وعلا على نعمته , ومنها إن الإنسان قد يتضرر من الأكل وهو متكئ , لأنه يفقد الاعتدال في الجلسة الذي يجعل مجرى الطعام غير طبيعي , ولذلك قد يَشْرق الإنسان بالماء إذا شربه وهو متكئ.
الثانية : أنه النبي لم يكن يطأ عقبه رجلان , بمعنى أنه لم يكن يأذن للناس أن يمشوا خلفه , فهذا من تواضعه الجم , فلو أنه أذن للصحابة رضي الله عنهم أن يتبعوه لمشى أكثرهم خلفه احتراما له وتعظيما , ولكنهم لم يكونوا يفعلون ذلك لما يعلمون من كراهيته إياه.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي r كان يخيط ثوبه , ويخصف نعله , ويعمل مايعمل الرجال في بيوتهم"
فهذه أمثلة من تواضعه ص , حيث يقوم بشؤونه في البيت بنفسه مع كثرة مشاغله والتزاماته, ومن صفات العظمة في الرجل أن لاتشغله الأمور الكبيرة عن الأمور الصغيرة.
ومن ذلك ما أخرجه الحافظ الترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه : أن النبي r قال : "من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله على رؤوس الخلائق, حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها".
وقـوله " من أي حلل الإيمان " قال أبو عيسى الترمذي : يعني مايعطَى أهل الإيمان من حلل الجنة
فهذا الحديث فيه ترغيب عظيم في التواضع في اللباس , ببيان ماسيحظى به المتواضع من ثواب جزيل في الجنة , وأن الثمن الذي يقدمه المسلم لشراء تلك السلعة الغالية هو أن يترك اللباس الفاخر وهو يملك ثمنه تواضعا وزهدًا في مظاهر الدنيا , فما أسهل الثمن وما أعظم المثمن!!
ومن ذلك ما أخرجه مسلم وأبو داود رحمهما الله من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال قال رسول الله "إن الله تعالى أوحى إلي : أن تواضعوا حتى لايفخر أحد على أحد , ولايبغي أحد على أحد" .
فقد أمرنا رسول الله بالتواضع للمؤمنين , وذكر نتيجتين من نتائج الكبر , الأولى الفخر بأمور الدنيا كالنسب والمال والجاه , والثانية البغي والاعتداء على الناس, والاتصاف بالتواضع يمنع المسلم من الوقوع في تلك المفسدتين المترتبتين على الكبر.
ومن ذلك ما أخرجه مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: "مانقصتْ صدقة من مال , ومازاد الله عبدا بعفو إلا عزا , وماتواضع أحد لله إلا رفعه الله"
فهذا جزاء عظيم لعمل يسير على من يسره الله تعالى عليه , وهل يريد المسلم أعظم من رفعة الدرجات يوم القيامة ؟!
ومما روي عن رسول الله r في خلق التواضع – إضافة إلى مامر معنا من ذلك في استعراض سيرته الشريفة – ماأخرجه الإمام الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"كان النبي إذا استقبله الرجل فصافحه لاينـزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينـزع, ولايصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو يصرفه,ولم يُرَ مقدِّما ركبته بين يدي جليس له"
وهذه آداب إسلامية رفيعة مبعثها التواضع , ويشملها خلق الإيثار , فهي تقوم على اعتبار تقديم الغير على النفس في أمور الحياة , سواء في ذلك الأمور المعنوية , التي تقتضي إعزاز الآخرين والرفع من مكانتهم كما في هذا الحديث , أو في الأمور المادية التي تقوم على التنازل عن الحقوق المالية لمصلحة الآخرين.
ومن الأمثلة التربوية العالية المبنية على الرحمة والتواضع ما أخرجه أحمد من حديث عبد الله ابن شداد عن أبيه رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر وهو حامل الحسن أو الحسين , فتقدم r فوضعه ثم كبر للصلاة , فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها , فقال : إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد فرجعت في سجودي , فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس : يارسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطَلْتها فظننا أنه قد حدث أمر أو أنه قد يُوحَى إليك, قال: فكل ذلك لم يكن , ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته