description2011-03-17, 16:56
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لقد تبدّت بي الحيرة وأخذني القلق حتى اشتد عليّ ألم الذنب! ولجأت إلى الله عز وجل ثم إلى فضيلتكم: فإني شاب أبلغ من العمر خمس وعشرين سنة، أنهيت مراحل الدارسة، وأزاول بعض الأعمال الحرة ولكن هناك مشكلة تؤرقني وأحاول أن أجد لها حلاً.
والمشكلة ـ بإختصار ـ أنني دائماً أفكر فيما فعلته في الماضي عندما كنت صبياً ثم شاباً وما ارتكبته من المعاصي والكبائر، ولا أقول هذا من باب التفاخر بالإثم وإن كنت أحس بهذا الشعور فيما مضى ولكن ليس الآن.
فقد نشأت في بيئة عادية أمي ليس لها همّ إلا الأكل والشرب، والخروج إلى الزيارات للأهل والجيران، والنزهة في الأسواق، وكثرة الشراء المفيد وغير المفيد. هذا غير المشاكل اليومية والأسبوعية التي تشتعل بينها وبين أبي على الصغيرة والكبيرة وكأنهم أعداء وليسوا آباء.
فأبي مشغول بتجارته وأعماله وأصدقائه، لا نراه إلا قليلاً، بل لا نكاد نشعر به إذا حضر، لم نتعوّد في يوم من الأيام على الحياة الإيمانية، لم يوجهني إلى طريق الإيمان ولم تهتم أمي بأي شيء يتعلق بالإسلام سوى أنها تريد مني أن أكون شاباً تفتخر به أنه فعل الأفاعيل وشاب "مودرن" متفتح، لم تعبأ بمن يتصل بي من الفتيات، ولم تعترض بل كانت تجد هذا أمراً عادياً يحدث بين شاب وفتاة.
لا أذكر أن بيتنا عرف القرآن وقراءته إلا في مناسبة وفاة جدي، سمعنا ترتيل القرآن على فترات بالأخص عندما يحضر أحد لتقديم واجب العزاء.
أما الصلة مع أعمامي وعماتي وأولادهم فهي مقطوعة، لم أسمع في يوم أبي يدعو عماً من أعمامي أو عمةً من عماتي، بل ورفض المشاركة في فرح ابن عمي، ورفض الحضور أو التهنئة ونفس الحال في الأعياد فأبي يفضل أن نسافر لقضاء الإجازة في الخارج، وعندما نعود نتواصل مع الأصدقاء فقط، وأخوالي وخالاتي حتى ابن عمي كان معي في نفس المدرسة ولم أعرفه إلا من خلال تكرار اسم العائلة، وبالبحث علمت أنه ابن عمي، وكم خجلت من نفسي ولكن الأمر ليس بيدي فالذنب كله من أبي هو من قطع علاقته بأعمامي، وحرمنا من الصلة بهم هذا عن المحيط الأسري، أما عني أنا شخصياً فسأحدثك حديث الصراحة التي لا يمكن أن أخفي منها شيئاً والكلام ليس للافتخار ولكني أريد العلاج ومن أجل هذا كان لابد أن أصارحك بكل شيء، لقد شربت الخمر مرتين في حياتي، وربما ثلاث مرات لا أدري، ولقد زنيت بنساء وكنت على وشك أن أفسد مستقبل فتاة لولا أن الله رحمها من أذاي.. لا أدري هل من الممكن أن يتوب الله عليّ وأن يغفر لي؟
لا أدري لقد حاولت التوبة أكثر من مرة، ودائماً أعود لنفس الإثم، شعرت بأني منافق.. لا يخشى الموت ولا الحساب. أحس أحياناً أن الله يحبني وأني أحبه، ولكن سرعان ما يسيطر الشيطان على قلبي مرة أخرى، ولقد هزمت الشيطان في معارك كثيرة ولكنه هزمني في معارك أكثر.
هل من الممكن أن أعود مرة أخرى؟ ولكن كيف؟ كثيراً ما صليت لله، وما أكثر ما قطعت الصلاة، لم أشعر بمعنى الخشوع في صلاتي بل كنت دائماً أؤديها حركات فقط لمجرد أن يشاهدني الناس أصلي.
لقد وصل ضعفي لدرجات قد لا يتخيلها مؤمن.
ولقد أقسمت على القرآن الكريم أن أنتهي عن التدخين والشيشة، ولكني لم أفعل. عاهدت الله أني لن أشاهد المواقع الإباحية وأمتنع عن ممارسة العادة السيئة ولن أعود إليهم أبداً ولن أشاهد تلك الأفلام القذرة التي يقتل بها الغرب إيماننا ولكني خالفت عهدي مع الله. لقد ضعفت إرادتي إلى حدّ لا يتخيله أحد بعد أن كنت في يوم من الأيام أتحلى بقوة وإرادة وقدرة على تغيير شخصيتي وأسلوبي في الحياة..
لقد أصبحت شخصاً لا يشعر بلذة الحياة، وإن كنت ما زلت أحتفظ بروحي وصولات وجولات من الإثم والمعاصي والكذب والخداع فكيف النجاة؟ أريد أن أعرف ما عرفه الملتزمون ولم أعرفه.. مؤكد أنهم علموا شيئاً لم أعلمه ولم أشعر به؛ هذا هو أنا فماذا أفعل؟ أفيدوني أفادكم الله.. فلقد توالت سُحب سوداء في حياتي.. بدأت أشعر بالضيق والكآبة.
الرد على رسالة الشاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم القائل: { من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه } [رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
قرأت رسالتك، واعلم أنه لا شيء يحول بينك وبين التوبة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، وملأت الأرض كلها، فمادام الإنسان في هذه الحياة فإنّ باب التوبة مفتوح، وقد تبين لي منها أنك تعيش صراعاً بين نداء الإيمان في قلبك، ونداء الشهوة التي يحرّكها الشيطان فيه، والحمد لله تعالى أنه قد بقي في قلبك نور من الإيمان، يلومك على فعل السيئة، ويزين لك العمل الصالح، ولكنه نور ضعيف؛ لأن ظلمة السيئات التي هي نفث من الشيطان أضعفت هذا النور، ولهذا يضيء أحياناً، فيتيقظ ضميرك قليلاً، ثم لا يلبث حتى ينطفئ مرة أخرى وتعود إلى فعل السيئات.
وسأبين لك المرض الذي تعاني منه، ثم أصف لك العلاج، فاقرأ ما أقول لك بتمعن واهتمام؛ لعل الله تعالى ينفعك به.
القلب أيها الأخ الكريم، هو موضع الإرادة في الإنسان، فهو أحياناً يريد الخير، وأحياناً يريد الشر، والجوارح ليست سوى جنود تطيعه على وفق ما فيه من الإرادة. والفرق بين الملتزمين بالطاعة وبينك أنّ الملتزمين قلوبهم تريد الخير إرادة جازمة، ولهذا فجوارحهم تطيع هذه الإرادة، فهم مستقيمون على طاعة الله تعالى، وأما أنت فقلبك يعلم الخير والشر، ويفرق بين الحسنات والسيئات، ولكنه لا يستطيع أن يريد الخير، فتجده يريد الشهوات، مع أنه يعلم أنها تضرّه، فيأمر الجوارح فتطيعه، ولكن ما هو السبب؟
السبب هو أن القلب المحصن من الشيطان تسهل عليه إرادة فعل الخيرات؛ لأنه قلب صحيح قوي، والقلب الذي يمكن الشيطان أن يدخله فيتجول فيه كما يشاء، يستطيع الشيطان بسهولة أن يجعل فيه إرادة السيئات، بعدما يزينها له؛ لأنه قلب مريض مليء بالجراثيم الشيطانية.
ومن الناس من لا يدخل الشيطان قلبه إلا مروراً سريعاً؛ لقوةالتحصينات حوله، فهذا مثل الذين يفعلون الصغائر أحياناً وسرعان ما يتوبون منها، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]، ومن الناس من لا يقترب الشيطان من قلبه أبداً، لأن قلبه مثل السماء المحروسة بالشهب من الشياطين، فقلبه؛ كذلك محروس من الشيطان، وقال الرسول عن هذا القلب: { أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض } [رواه مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه]، ومن الناس من دخل الشيطان قلبه، فاتخذ فيه بيتاً، وجعل له فيه عشاً يبيض فيه ويفرخ، فاستحوذ عليه يأمر القلب بالشهوات المحرمة، فيريدها قلبه، فيأمر الجوارح بفعلها فتفعله؛ لأن الشيطان وجده قلباً خالياً من التحصينات، مفتح الأبواب، ضعيفاً مريضاً بفعل السيئات، ولهذا قال الله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله [المجادلة:19]، لأن ذكر الله تعالى هو الحصن من الشيطان، فأنساهم إياه، ليستحوذ على قلوبهم فيقودها لتنقاد جوارحهم له تبعاً.
والقلب لا يحصّن من الشيطان إلا بذكر الله تعالى، لا يقوى على إرادة الخير إلا بالعمل الصالح، ولا يغلبه الشيطان إلا إن كان غافلاً عن ذكر الله تعالى، ضعيفاً بسبب فعل السيئات والمنكرات.
والآن بعد أن عرفت السبب في أن قلبك لا يطاوعك على إرادة العمل الصالح وترك السيئات، ولا يمكنه أن يثبت على الاستقامة، فالعلاج يكمن في الوصفة الطبية، خذها وداوم عليها فنتائجها مضمونة بإذن الله إن ثابرت عليها بصدق:
1- احرص على إقامة الصلوات الخمس في جماعة لا سيما صلاة الفجر، فإياك أن تفوتك أبداً، قال الله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78]. أي صلاة الفجر تشهدها الملائكة.
2- بعد صلاة الفجر امكث في المسجد لقراءة القرآن إلى طلوع الشمس، ثم صل ركعتين بعد ارتفاعها قيد رمح، وقيد الرمح: مقدار عشر دقائق من أول الشروق.
3- قل: ( سبحان الله وبحمده ) مائة مرة كل يوم في أي وقت في المسجد أو البيت، ماشياً، أو قاعداً، أو في السيارة.. الخ، وهذا الذكر يحت الخطايا حتاً.
4- استغفر الله تعالى مائة مرة مرة كل يوم، قائلاً: ( أستغفر الله وأتوب إليه ) كذلك في أي وقت شئت، وعلى أي حال تكون.
5- قل هذا الذكر مائة مرة: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) مائة مرة كل يوم كذلك في أي وقت شئت، وعلى أية حال تكون، ولا يشترط في المسجد، وهذه الأذكار كان يداوم عليها النبي فهي حياة القلب وغذاؤه الذي لا يستغنى عنه.
6- بين صلاتي المغرب والعشاء رابط في المسجد فلا تخرج منه واقرأ ما تيسر من القرآن بالتدبر.
7- يجب عليك الحميّة التامة من النظر إلى التلفزيون، أو المجلات الهابطة، أو الذهاب إلى أي مكان فيه منكرات، فأنت في حجر صحي؛ لكي ترجع إلى قلبك عافيته، ولن ينفعك الدواء وهي الحسنات، إن كنت تدخل عليه الداء في أثناء فترة العلاج، والداء هو السيئات.
8- استمر على هذا البرنامج شهراً كاملاً على الأقل، تعيش فيه مع القرآن تقرؤه بالتدبّر، وتعمل بما فيه، وتخلو بنفسك لذكر الله تعالى الساعات الطوال، والدليل على الشهر أن الرسول أمر بذلك فقال: { اقرأ القرآن شهر، اقرأه في خمس وعشرين، اقرأه في عشر، اقرأه في سبع } [متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
9- إن كانت البيئة التي تعيش فيها لا تساعدك على تطبيق هذا البرنامج فغيّر بيئتك، أترك أصحاب السوء، وابتعد عن الأماكن التي تقضي فيها أوقات فراغك إن كانت تشجع على المعاصي، ولو استطعت أن تسافر إلى مكة مثلاً لتطبق هذا البرنامج فافعل.
بدّل الصحبة القديمة بصحبة طيبة تعينك على الخير، وتدلك عليه، فإن حضورهم بجوارك وملازمتك إياهم من أعظم وسائل الثبات على دين الله، فأنت مثلاً لا تستيطع أن تدخن بحضورهم! فهذه خطوة كبيرة نحو تحصين نفسك.
10- تصدق بجزء من مالك؛ توبة إلى الله تعالى، صدقة سر لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى؛ فقد صحّ عن النبي : { صدقة السر تطفئ غضب الرب } [رواه ابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه].
11- إن كانت لديك حقوق للناس ردها كلها، ولا تترك منها شيئاً في ذمتك؛ توبة إلى الله.
12- ادع الله تعالى كل ليلة في وقت السحر قبل صلاة الفجر بهذا الدعاء: ( رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) وهذا الدعاء: ( اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي ) وهذان علمهما الرسول لبعض أصحابه، وأكثر من الاستغفار والدعاء؛ فإن السحر ( قبل الفجر ) وقت يستجاب فيه الدعاء. هذه هي وصفتك الطبية، ومدة الشهر غير مقصودة بالتحديد، فقد يظهر عليك التغير قبل ذلك، وقد تحتاج إلى الاستمرار أكثر من شهر في هذا الحجر الصحي، والهدف منه هو طرد الشيطان من القلب، وتنظيف آثاره، وأوساخه، وقاذوراته التي وضعها فيه؛ لأنها هي السبب في كون قلبك ضعيفاً؛ لا يستطيع إرادة الخير وفعل الصالحات، وينقاد بسرعة إلى نداء الشهوات.
فإن عاد إلى القلب عافيته، وصار سليماً قوياً بذكر الله تعالى، محصناً من كيد الشيطان، فخفف قليلاً من هذا البرنامج على قدر ما تطيق، فقد قال : { عليكم بما تطيقون } [متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها]، إلا إن كانت تطيق أكثر من ذلك، فزد من الخير ما دام قلبك يحب العمل الصالح، فهذه الوظائف الإيمانية هي الدرجات عند الله، كلما أكثر العبد منها ارتفع وعلا في مدارج التقوى، وأحسن أداء ما افترض الله عليك، وستلاحظ أن الأمور تغيرت بشكل عجيب، مع مداومتك على هذه الوصفة التي وصفت لك، وستجد نفسك تكره الوقوع في المعاصي، وستجد قلبك لا يريد فعلها، وينظر إليك نظرة احتقار وازدراء، وستحبّ العمل الصالح، وتنشط له، وتشعر بحلاوته في قلبك، والسر في هذا التغيير هو أنك عالجت القلب بذكر الله تعالى والعمل الصالح فصار صحيحاً يريد الخير ويحبه، بعد أن كان مريضاً يريد الشر والسيئات ويحبها، قال الحق سبحانه: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8،7]. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_____________
لقد تبدّت بي الحيرة وأخذني القلق حتى اشتد عليّ ألم الذنب! ولجأت إلى الله عز وجل ثم إلى فضيلتكم: فإني شاب أبلغ من العمر خمس وعشرين سنة، أنهيت مراحل الدارسة، وأزاول بعض الأعمال الحرة ولكن هناك مشكلة تؤرقني وأحاول أن أجد لها حلاً.
والمشكلة ـ بإختصار ـ أنني دائماً أفكر فيما فعلته في الماضي عندما كنت صبياً ثم شاباً وما ارتكبته من المعاصي والكبائر، ولا أقول هذا من باب التفاخر بالإثم وإن كنت أحس بهذا الشعور فيما مضى ولكن ليس الآن.
فقد نشأت في بيئة عادية أمي ليس لها همّ إلا الأكل والشرب، والخروج إلى الزيارات للأهل والجيران، والنزهة في الأسواق، وكثرة الشراء المفيد وغير المفيد. هذا غير المشاكل اليومية والأسبوعية التي تشتعل بينها وبين أبي على الصغيرة والكبيرة وكأنهم أعداء وليسوا آباء.
فأبي مشغول بتجارته وأعماله وأصدقائه، لا نراه إلا قليلاً، بل لا نكاد نشعر به إذا حضر، لم نتعوّد في يوم من الأيام على الحياة الإيمانية، لم يوجهني إلى طريق الإيمان ولم تهتم أمي بأي شيء يتعلق بالإسلام سوى أنها تريد مني أن أكون شاباً تفتخر به أنه فعل الأفاعيل وشاب "مودرن" متفتح، لم تعبأ بمن يتصل بي من الفتيات، ولم تعترض بل كانت تجد هذا أمراً عادياً يحدث بين شاب وفتاة.
لا أذكر أن بيتنا عرف القرآن وقراءته إلا في مناسبة وفاة جدي، سمعنا ترتيل القرآن على فترات بالأخص عندما يحضر أحد لتقديم واجب العزاء.
أما الصلة مع أعمامي وعماتي وأولادهم فهي مقطوعة، لم أسمع في يوم أبي يدعو عماً من أعمامي أو عمةً من عماتي، بل ورفض المشاركة في فرح ابن عمي، ورفض الحضور أو التهنئة ونفس الحال في الأعياد فأبي يفضل أن نسافر لقضاء الإجازة في الخارج، وعندما نعود نتواصل مع الأصدقاء فقط، وأخوالي وخالاتي حتى ابن عمي كان معي في نفس المدرسة ولم أعرفه إلا من خلال تكرار اسم العائلة، وبالبحث علمت أنه ابن عمي، وكم خجلت من نفسي ولكن الأمر ليس بيدي فالذنب كله من أبي هو من قطع علاقته بأعمامي، وحرمنا من الصلة بهم هذا عن المحيط الأسري، أما عني أنا شخصياً فسأحدثك حديث الصراحة التي لا يمكن أن أخفي منها شيئاً والكلام ليس للافتخار ولكني أريد العلاج ومن أجل هذا كان لابد أن أصارحك بكل شيء، لقد شربت الخمر مرتين في حياتي، وربما ثلاث مرات لا أدري، ولقد زنيت بنساء وكنت على وشك أن أفسد مستقبل فتاة لولا أن الله رحمها من أذاي.. لا أدري هل من الممكن أن يتوب الله عليّ وأن يغفر لي؟
لا أدري لقد حاولت التوبة أكثر من مرة، ودائماً أعود لنفس الإثم، شعرت بأني منافق.. لا يخشى الموت ولا الحساب. أحس أحياناً أن الله يحبني وأني أحبه، ولكن سرعان ما يسيطر الشيطان على قلبي مرة أخرى، ولقد هزمت الشيطان في معارك كثيرة ولكنه هزمني في معارك أكثر.
هل من الممكن أن أعود مرة أخرى؟ ولكن كيف؟ كثيراً ما صليت لله، وما أكثر ما قطعت الصلاة، لم أشعر بمعنى الخشوع في صلاتي بل كنت دائماً أؤديها حركات فقط لمجرد أن يشاهدني الناس أصلي.
لقد وصل ضعفي لدرجات قد لا يتخيلها مؤمن.
ولقد أقسمت على القرآن الكريم أن أنتهي عن التدخين والشيشة، ولكني لم أفعل. عاهدت الله أني لن أشاهد المواقع الإباحية وأمتنع عن ممارسة العادة السيئة ولن أعود إليهم أبداً ولن أشاهد تلك الأفلام القذرة التي يقتل بها الغرب إيماننا ولكني خالفت عهدي مع الله. لقد ضعفت إرادتي إلى حدّ لا يتخيله أحد بعد أن كنت في يوم من الأيام أتحلى بقوة وإرادة وقدرة على تغيير شخصيتي وأسلوبي في الحياة..
لقد أصبحت شخصاً لا يشعر بلذة الحياة، وإن كنت ما زلت أحتفظ بروحي وصولات وجولات من الإثم والمعاصي والكذب والخداع فكيف النجاة؟ أريد أن أعرف ما عرفه الملتزمون ولم أعرفه.. مؤكد أنهم علموا شيئاً لم أعلمه ولم أشعر به؛ هذا هو أنا فماذا أفعل؟ أفيدوني أفادكم الله.. فلقد توالت سُحب سوداء في حياتي.. بدأت أشعر بالضيق والكآبة.
الرد على رسالة الشاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم القائل: { من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه } [رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
قرأت رسالتك، واعلم أنه لا شيء يحول بينك وبين التوبة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، وملأت الأرض كلها، فمادام الإنسان في هذه الحياة فإنّ باب التوبة مفتوح، وقد تبين لي منها أنك تعيش صراعاً بين نداء الإيمان في قلبك، ونداء الشهوة التي يحرّكها الشيطان فيه، والحمد لله تعالى أنه قد بقي في قلبك نور من الإيمان، يلومك على فعل السيئة، ويزين لك العمل الصالح، ولكنه نور ضعيف؛ لأن ظلمة السيئات التي هي نفث من الشيطان أضعفت هذا النور، ولهذا يضيء أحياناً، فيتيقظ ضميرك قليلاً، ثم لا يلبث حتى ينطفئ مرة أخرى وتعود إلى فعل السيئات.
وسأبين لك المرض الذي تعاني منه، ثم أصف لك العلاج، فاقرأ ما أقول لك بتمعن واهتمام؛ لعل الله تعالى ينفعك به.
القلب أيها الأخ الكريم، هو موضع الإرادة في الإنسان، فهو أحياناً يريد الخير، وأحياناً يريد الشر، والجوارح ليست سوى جنود تطيعه على وفق ما فيه من الإرادة. والفرق بين الملتزمين بالطاعة وبينك أنّ الملتزمين قلوبهم تريد الخير إرادة جازمة، ولهذا فجوارحهم تطيع هذه الإرادة، فهم مستقيمون على طاعة الله تعالى، وأما أنت فقلبك يعلم الخير والشر، ويفرق بين الحسنات والسيئات، ولكنه لا يستطيع أن يريد الخير، فتجده يريد الشهوات، مع أنه يعلم أنها تضرّه، فيأمر الجوارح فتطيعه، ولكن ما هو السبب؟
السبب هو أن القلب المحصن من الشيطان تسهل عليه إرادة فعل الخيرات؛ لأنه قلب صحيح قوي، والقلب الذي يمكن الشيطان أن يدخله فيتجول فيه كما يشاء، يستطيع الشيطان بسهولة أن يجعل فيه إرادة السيئات، بعدما يزينها له؛ لأنه قلب مريض مليء بالجراثيم الشيطانية.
ومن الناس من لا يدخل الشيطان قلبه إلا مروراً سريعاً؛ لقوةالتحصينات حوله، فهذا مثل الذين يفعلون الصغائر أحياناً وسرعان ما يتوبون منها، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]، ومن الناس من لا يقترب الشيطان من قلبه أبداً، لأن قلبه مثل السماء المحروسة بالشهب من الشياطين، فقلبه؛ كذلك محروس من الشيطان، وقال الرسول عن هذا القلب: { أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض } [رواه مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه]، ومن الناس من دخل الشيطان قلبه، فاتخذ فيه بيتاً، وجعل له فيه عشاً يبيض فيه ويفرخ، فاستحوذ عليه يأمر القلب بالشهوات المحرمة، فيريدها قلبه، فيأمر الجوارح بفعلها فتفعله؛ لأن الشيطان وجده قلباً خالياً من التحصينات، مفتح الأبواب، ضعيفاً مريضاً بفعل السيئات، ولهذا قال الله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله [المجادلة:19]، لأن ذكر الله تعالى هو الحصن من الشيطان، فأنساهم إياه، ليستحوذ على قلوبهم فيقودها لتنقاد جوارحهم له تبعاً.
والقلب لا يحصّن من الشيطان إلا بذكر الله تعالى، لا يقوى على إرادة الخير إلا بالعمل الصالح، ولا يغلبه الشيطان إلا إن كان غافلاً عن ذكر الله تعالى، ضعيفاً بسبب فعل السيئات والمنكرات.
والآن بعد أن عرفت السبب في أن قلبك لا يطاوعك على إرادة العمل الصالح وترك السيئات، ولا يمكنه أن يثبت على الاستقامة، فالعلاج يكمن في الوصفة الطبية، خذها وداوم عليها فنتائجها مضمونة بإذن الله إن ثابرت عليها بصدق:
1- احرص على إقامة الصلوات الخمس في جماعة لا سيما صلاة الفجر، فإياك أن تفوتك أبداً، قال الله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78]. أي صلاة الفجر تشهدها الملائكة.
2- بعد صلاة الفجر امكث في المسجد لقراءة القرآن إلى طلوع الشمس، ثم صل ركعتين بعد ارتفاعها قيد رمح، وقيد الرمح: مقدار عشر دقائق من أول الشروق.
3- قل: ( سبحان الله وبحمده ) مائة مرة كل يوم في أي وقت في المسجد أو البيت، ماشياً، أو قاعداً، أو في السيارة.. الخ، وهذا الذكر يحت الخطايا حتاً.
4- استغفر الله تعالى مائة مرة مرة كل يوم، قائلاً: ( أستغفر الله وأتوب إليه ) كذلك في أي وقت شئت، وعلى أي حال تكون.
5- قل هذا الذكر مائة مرة: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) مائة مرة كل يوم كذلك في أي وقت شئت، وعلى أية حال تكون، ولا يشترط في المسجد، وهذه الأذكار كان يداوم عليها النبي فهي حياة القلب وغذاؤه الذي لا يستغنى عنه.
6- بين صلاتي المغرب والعشاء رابط في المسجد فلا تخرج منه واقرأ ما تيسر من القرآن بالتدبر.
7- يجب عليك الحميّة التامة من النظر إلى التلفزيون، أو المجلات الهابطة، أو الذهاب إلى أي مكان فيه منكرات، فأنت في حجر صحي؛ لكي ترجع إلى قلبك عافيته، ولن ينفعك الدواء وهي الحسنات، إن كنت تدخل عليه الداء في أثناء فترة العلاج، والداء هو السيئات.
8- استمر على هذا البرنامج شهراً كاملاً على الأقل، تعيش فيه مع القرآن تقرؤه بالتدبّر، وتعمل بما فيه، وتخلو بنفسك لذكر الله تعالى الساعات الطوال، والدليل على الشهر أن الرسول أمر بذلك فقال: { اقرأ القرآن شهر، اقرأه في خمس وعشرين، اقرأه في عشر، اقرأه في سبع } [متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
9- إن كانت البيئة التي تعيش فيها لا تساعدك على تطبيق هذا البرنامج فغيّر بيئتك، أترك أصحاب السوء، وابتعد عن الأماكن التي تقضي فيها أوقات فراغك إن كانت تشجع على المعاصي، ولو استطعت أن تسافر إلى مكة مثلاً لتطبق هذا البرنامج فافعل.
بدّل الصحبة القديمة بصحبة طيبة تعينك على الخير، وتدلك عليه، فإن حضورهم بجوارك وملازمتك إياهم من أعظم وسائل الثبات على دين الله، فأنت مثلاً لا تستيطع أن تدخن بحضورهم! فهذه خطوة كبيرة نحو تحصين نفسك.
10- تصدق بجزء من مالك؛ توبة إلى الله تعالى، صدقة سر لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى؛ فقد صحّ عن النبي : { صدقة السر تطفئ غضب الرب } [رواه ابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه].
11- إن كانت لديك حقوق للناس ردها كلها، ولا تترك منها شيئاً في ذمتك؛ توبة إلى الله.
12- ادع الله تعالى كل ليلة في وقت السحر قبل صلاة الفجر بهذا الدعاء: ( رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) وهذا الدعاء: ( اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي ) وهذان علمهما الرسول لبعض أصحابه، وأكثر من الاستغفار والدعاء؛ فإن السحر ( قبل الفجر ) وقت يستجاب فيه الدعاء. هذه هي وصفتك الطبية، ومدة الشهر غير مقصودة بالتحديد، فقد يظهر عليك التغير قبل ذلك، وقد تحتاج إلى الاستمرار أكثر من شهر في هذا الحجر الصحي، والهدف منه هو طرد الشيطان من القلب، وتنظيف آثاره، وأوساخه، وقاذوراته التي وضعها فيه؛ لأنها هي السبب في كون قلبك ضعيفاً؛ لا يستطيع إرادة الخير وفعل الصالحات، وينقاد بسرعة إلى نداء الشهوات.
فإن عاد إلى القلب عافيته، وصار سليماً قوياً بذكر الله تعالى، محصناً من كيد الشيطان، فخفف قليلاً من هذا البرنامج على قدر ما تطيق، فقد قال : { عليكم بما تطيقون } [متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها]، إلا إن كانت تطيق أكثر من ذلك، فزد من الخير ما دام قلبك يحب العمل الصالح، فهذه الوظائف الإيمانية هي الدرجات عند الله، كلما أكثر العبد منها ارتفع وعلا في مدارج التقوى، وأحسن أداء ما افترض الله عليك، وستلاحظ أن الأمور تغيرت بشكل عجيب، مع مداومتك على هذه الوصفة التي وصفت لك، وستجد نفسك تكره الوقوع في المعاصي، وستجد قلبك لا يريد فعلها، وينظر إليك نظرة احتقار وازدراء، وستحبّ العمل الصالح، وتنشط له، وتشعر بحلاوته في قلبك، والسر في هذا التغيير هو أنك عالجت القلب بذكر الله تعالى والعمل الصالح فصار صحيحاً يريد الخير ويحبه، بعد أن كان مريضاً يريد الشر والسيئات ويحبها، قال الحق سبحانه: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8،7]. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_____________